الخميس، 26 مايو 2011

الجهر والهمس عند القدماء

أولآً .. تعريف القدماء لظاهرتي الجهر والهمس :
يُعَدُّ تعريفُ سيبويه (ت 180هـ) (1) للصَّوْتِ المجهورِ والمهموسِ أساسًا وقاعدةً ارتكَزَ عليها عُلَمَاءُ التجويد من بعده فلم يخرجوا عليه بل ردَّدوا عباراته بنصها. (2)
قال سيبويه : "فالمجهور حرفٌ أشبِعَ الاعتمادُ في موضعهِ ، ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي
الاعتمادُ عليه ويجريَ الصَّوت. فهذه حال المجهورة في الحلق والفم ، إلا أن النون والميم قد يعتمد لهما في الفم والخياشيم فتصير فيهما غنّة. والدليل على ذلك أنك لو أمسكتَ بأنفك ثم تكلمت بهما لرأيتَ ذلك قد أخل بهما.
وأمّا المهموسُ فحرفٌ أضعف الاعتماد في موضعِهِ حتى جرى النفس معه. وأنت تعرف ذلك إذا اعتبرتَ فردّدتَ الحرف مع جري النّفس. ولو أردتَ ذلك في المجهورة لم تقدر عليه. فإذا أردت إجراء الحروف فأنتَ ترفعُ صوتكَ إن شئتَ بحروف اللين والمد. أو بما فيها منها ، وإن شئت أخفيت". (3)
ولعلَّ القارئ الكريم يلاحظ معنا بعد التأمل في كلام سيبويه غموضا واضحا في بعض جوانبه! ولذا فقد حاولَ بعضُ علماء التجويد تقديم تعريفٍ أوضح من تعريف سيبويه ، كتعريف طاش كبرى زادة (ت 968هـ) (4) وذلك حيث يقول : " إنّ النفس الخارج الذي هو وظيفة الحرف ، إن تكيف كله بكيفية الصوت حتى يحصل صوت قوي كان الحرف مجهورا ، وإن بقي بعضه بلا صوتٍ مع الحرف كان الحرف مهموسا ". (5)
فهذا التعريف وإن كان أوضح من تعريف سيبويه بقليل ، إلا أنه لم يصل لحدّ الوضوح التام في تحديد الفرق ين المجهور والمهموس.
ولعلّ سيبويه كان أكثر دقّة ووضوحا في تحديد طبيعة كلٍّ من الصوتين وذلك في الرواية التي نقلها

________________________
(1) انظر ترجمته : ابن النديم : " الفهرست " ص 81 ، وعمر رضا كحالة : " معجم المؤلفين " / 2  584
(2) انظر مثلا : مكي بن أبي طالب : " الرعاية " ص 116 و117 ، والداني : " التحديد " ص 105 ، والقرطبي :
" الموضح " ص 88 ، وابن الجزري : " التمهيد " ص 86 و87
(3) نقلا عن : غانم قدوري الحمد : " الدراسات الصوتية عند علماء التجويد " ص 127
(4) انظر  ترجمته : عمر رضا كحالة : " معجم المؤلفين " / 1  308
(5) نقلا عن : غانم قدوري الحمد : " الدراسات الصوتية " ص 136
السيرافي (ت 368هـ) (1) حيث ذكر أن الأخفش (ت 215هـ) (2) قال : " سألت سيبويه عن الفصل بين المهموس والمجهور...قال سيبويه : وإنما فرَّقَ بين المجهور والمهموس أنك لا تصل إلى تبيين المجهور إلا أن تدخله الصّوت الذي يخرج من الصدر ، فالمجهورة كلها هكذا يخرج صوتهن من
الصدر ويجري في الحلق...وأما المهموسة فتخرج أصواتها من مخارجها ، وذلك مما يزجي الصوت ،
ولم يعتمد عليه فيها كاعتمادهم في المجهورة ، فأخرج الصوت من الفم ضعيفا...". (3)
ثانيا: خصائص الأصوات المجهورة والمهموسة عند القدماء :
أدرك الأوائل أنّ لكلٍّ من الأصوات المجهورة والمهموسة خصائص تميّزهما عن بعضهما ، وتتلخص في الآتي :
1- ) لاحظوا أنّ نَفَسَ الحرف المجهور قليلٌ مقارنة بكمية النفس الجاري مع الحرف المهموس ، فالمجهور (يمنعُ النّفَسَ أن يجري معه عندَ النطقِ به) والمهموس ( يجري النفس معه ) ، والمقصودُ بالنَّفَسِ : أي الهواءُ الذي هو أصلُ الصَّوت .
إنَّ سيبويه ومن تبعه من العلماءِ الأوائلِ قد لاحظوا بفطرتهم السّليمة وحسّهم المرهف وبالتجربةِ الذَّاتية أنَّ النفس (الهواء) المصاحب للحروفِ المجهورةِ لا يجري معها كما يجري مع الحروفِ
المهموسة ، ولم يكن مرادهم بِقولهم " يمنع النفس أن يجري معه " نفي جريان النَّفَسِ بالكلية مع الأصوات المجهورة.
ولو قال سيبويه ومن تَبِعَهُ في تعريف الصَّوْتِ المجهور بأنه (... منعَ النَّفَسَ أن يجري معه كما يجري
مع المهموس ) لكان تعريفهم – في نظري - أوضح وأقل غموضا ، لكننا نجدُ كلامًا صريحا لمحمّد المرعشي (ت 1150هـ) (4) في كتابه (جهد المقل) حول مسألةِ نَفَسِ الصوت المجهور والمهموس وذلك في قوله : " نفس الحرف المجهور قليل ، ونفس الحرف المهموس كثير ". (5)
2- ) قوةُ الصوتِ الجهريّ  ، أمّا المهموسُ فهو صوتٌ ضعيف لا يصلُ لقوة المجهور.
قال مكي بن أبي طالب القيسي ( ت 437هـ) (6) معللا سَبَبَ تسمية الحروف المهموسة بهذا
________________________
(1) انظر  ترجمته : ابن النديم : " الفهرست " ص 99 ، وعمر رضا كحالة : " معجم المؤلفين " / 1  561
(2) انظر  ترجمته : المصدران السابقان ص 82 و 83 ، و/ 1  769
(3) نقلا عن : إبراهيم أنيس : " الأصوات اللغوية " ص99 ، وغانم قدوري الحمد : " الدراسات الصوتية " ص 130 
(4) انظر ترجمته : عمر رضا كحالة : "معجم المؤلفين "/ 3  711
(5) نقلا عن : غانم قدوري الحمد : " الدراسات الصوتية عند علماء التجويد " ص 138
(6) انظر  ترجمته :  ابن الجزري : " غاية النهاية في طبقاة القراء " ص309 و 310
الاسم : " لأن الهمس : هو الحِسّ الخفي الضعيف ، فلما كانت ضعيفة لُقِّبَتْ بذلك ، قال الله جلّ ذكره : " فلا تسمع إلا همسا " قيل : هو حِسُّ الأقدام". (1)
ووصَفَ الحروف المجهورة بأنها حروفٌ قوية ، والجهر : هو الصوتُ الشّديد القوي . (2)
وتابعه أبو عمرو الداني ( ت 444هـ) (3) في ذلك بقوله : " ومعنى المجهورة أنه حرفٌ قَوِيَ
الاعتمادُ في موضعه ، فمنع النَّفَسَ أن يجريَ معه . والهمسُ الإخفاء ، والجهرُ الإعلان ". (4)
نستطيعُ القولَ بناءً على تعريفاتِ علماءِ التجويدِ لصفتي الجهر والهمس بأنهم قد أدركوا هذا الأثر السمعيّ للأصواتِ المجهورَةِ فوصفوها بالقوة والوضوح والإعلان ، وأدركوا كذلك أنَّ الأصوات
المهموسة أضعف وأقلّ وضوحا في أذُنِ السّامع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق